الأحد، 17 يناير 2016

وقفة مع مصطلح "السلفية المتشددة"

يلحظ المتابع في الآونة الأخيرة استخدام البعض لمصطلح جديد لم يكن رائجًا من ذي قبل وهو مصطلح "السلفية المتشددة"،
واضطراب المروجين له في بيان المراد منه بات واضحًا للعيان..!!
وتختلف درجات هذا الاضطراب بينهم فمقل ومستكثر..!!
فرأيت الحاجة ملحة لتسليط الضوء حول ما يتضمنه هذا المصطلح من معاني بشفافية ودون مواربة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]
فمصطلح "السلفية المتشددة" الذي أصبح يرَّوج وتلوكه بعض الألسنة مكون من جزئين (موصوف وصفة)، فلعلي أبين كل مفردة على حدة لأصل مع القارئ الكريم إلى مدى صحة هذا الإطلاق من عدمه، فابدأ أولاً ببيان معنى السلفية:
فالسلفية نسبة إلى السلف، ومعناها اتباع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح،
والمراد بالسلف الصالح هم (الصحابة والتابعون وأتباعهم) أصحاب القرون المفضلة الذين خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية في قوله: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.."
والذين قد نهانا الله عز وجل عن اتباع غير سبيلهم في قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]
فالسلفية هي الإسلام العتيق الذي كان عليه الصدر الأول من هذه الأمة المباركة الذين عناهم الإمام مالك بكلمته المشهورة بعد ذكره قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، قال: فما لم يكن يومئذٍ دينًا فليس اليوم دينًا"
فهم حملة هذا الدين الحنيف ونقلته المأمونين، ورحم الله من قال: الخير كل الخير في اتباع من سلف والشر كل كالشر في ابتداع من خلف.. 
ومن أبرز سمات السلفية الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح الذين عاصروا التنزيل وعرفوا أسبابه،
وعدم تقديم العقل على النقل، فالحلال عندهم ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله،  
وأساس دعوتهم هو الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك وهذا هو أساس دعوة الأنبياء والرسل قاطبة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 
ومن سماتهم جمع قلوب الناس على ولاة أمورهم وإعزازهم والدعوة إلى طاعتهم بالمعروف، وتحريم الخروج عليهم بالكلمة فضلاً عن السيف، ويسلكون في نصح الولاة إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم للأمة: "من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه" رواه ابن أبي عاصم.
 وهم من أبعد الناس عن التعصب للأشخاص مهما علت منزلتهم مع احترامهم وعدم إهدار جهودهم؛ فلذلك تجدهم لا يتعصبون لمذهب واحد ويهدرون غيره، ولا يقدمون آراء الرجال على النصوص كما هو حال متعصبة المذاهب أو الحزبية!!
إنما يأخذون بأقوال الأئمة -كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد- فيما هو أقرب للأدلة الشرعية عملاً بوصيتهم وإليك بعض نصوصهم:
1) قال الإمام أبو حنيفة: "إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي" [الفلاني في الإيقاظ ص ٥٠]
2) قال الإمام مالك: " إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه" [ابن عبدالبر في الجامع 2 / 32]
3) قال الإمام الشافعي: " إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت" [النووي في المجموع 1 / 63]
4) قال الإمام أحمد: "لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا" [ابن القيم في إعلام الموقعين 2 / 302]
ومن سمات السلفية تحذير العامة من البدع والمحدثات -التي أدخلت في الدين وليست منه- وممن يدعو إليها؛ نصيحة لهذه الأمة عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة..". 
وهم أبعد الناس عن تكفير الخلق، وأعرفهم بالحق وأرحمهم بالخلق، فلا يكفرون إلا من كفَّره الله ورسوله بالضوابط والشروط الشرعية.
فهذه نبذة يسيرة جدًا عن منهج السلفية وأبرز سماتهم..
وأما الشق الثاني "المتشددة"
وهي مأخوذة من الشدة وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التشدد في الدين كما في قوله: " إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه..." [رواه البخاري]
قال الحافظ بن حجر -رحمه الله-: "والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيُغلب.." [الفتح 1/94]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا
قال الإمام النووي -رحمه الله- : "المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم" [شرح مسلم]
قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: «والناس في العبادة طرفان ووسط، فمنهم المفَّرِّطُ ومنهم المُفْرَطُ المتوسَّطُ، فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلاً لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا، هذا هو الواجب؛ فلا يجوز التشدد في الدين المبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة، بل كن وسطاً بين هذا وهذا». [القول المفيد: (1/379)]
والخلاصة أن معنى التشدد يتناول تحريم ما أحله،
والزيادة في الدين ما ليس منه،
وتكليف النفس بما لا تطيق،
والبحث والتعمق عن أشياء لم نؤمر بالبحث والتنقيب عنها، ولا درج عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم.
 ومما سبق يتضح لنا جليًا أن مصطلح "السلفية المتشددة" ينقض أوله آخره وآخره أوله فـ"السلفية" و"التشدد" نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان!! 
وهنا يرد سؤال مهم وهو: هل جاء هذا المصطلح اعتباطًا؟! 
أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟!
الذي يظهر أن الأمر مقصود ولم يأتِ اعتباطًا!!
يقول الزركشي في البحر المحيط (١ / ٤١٣): ما تعلق به حكم من الألفاظ لا يجوز تغييره إذ يؤدي إلى تغيير الحكم" 
قال الشيخ الموصلي معلقًا: وقد لوحظ أن التغيير في الألفاظ ذريعة إلى التلاعب في المعاني.." [الدعوة السلفية.. ص٤٧]
فالمقصود إذًا تشويه صورة الدعوة السلفية ومحاولة ربط اسمها بالتشدد أو كقولهم "السلفية الجهادية.." ونحوها ليرتبط في أذهان العامة اسم السلفية بما أضيف إليه من الصفات للتنفير منها!!
وأما تدليس البعض بأن المقصود بمصطلح "السلفية المتشددة" هم الدواعش!! وكل من يحمل فكر الخوارج فهو من باب تسمية الأشياء بغير اسمها وهو تلاعب مكشوف لا ينطلي إلا على السذج والسلفية براء من الدواعش وفكرهم براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.
والواجب أن يسمى كل شيء باسمه حتى تعرف حقيقة،
وختاما أقول: مهما حاولوا تشويه صورة السلفية فلن يجدوا إلى ذلك سبيلاً؛ لأن الله يقول: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.

هناك تعليق واحد: