الثلاثاء، 23 سبتمبر 2014

نفض غبار العصبية عن السلفية


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن الله عز وجل حثَّنا على الاجتماع في إقامة الدين ونهانا عن التفرق فيه فقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...} [الشورى: ١٣] وإقامة الدين بالدعوة إلى توحيد الله وترسيخه في النفوس، ونبذ كل ما يناقض أصله أو كماله، فالتوحيد هو أساس دعوة الرسل من لدن نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أول واجب على العبيد؛ لأنه محض حق الله تعالى الذي لا يقبل الله بدونه من العبد صرفًا ولا عدلًا، بل لا يصح ولا يقبل عمل بدونه البتة لقول الله تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: ١١٠ ] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغي به وجهه" [السلسلة الصحيحة: ٥٢],
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل بالبدء به لما بعثه إلى اليمن فقال: "...فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى.." [البخاري: ٧٣٧٢] .
ولا يُعلم أحد قام بهذا الحق أتم قيام -تعلمًا وعملًا وتعليمًا للناس- مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك استحقوا أن يصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "خير الناس قرني..." [البخاري: ٢٦٥٢], بل حذرنا المولى من مخالفة طريقهم فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: ١١٥]
وسبيل المؤمنين هو سبيل الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين لهم ومن تبعهم أهل القرون المفضلة الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية فقال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..." [البخاري: ٢٦٥٢],
وهم السلف الصالح رضوان الله عليهم، فسبيلهم هو الحق الذي من حاد عنه زل!!
ومن رغب عنه ضل!!،
أتدري لماذا؟!
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "من كان مستنًا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد،
١- أبر هذه الأمة قلوبًا،
٢- وأعمقها علمًا،
٣- وأقلها تكلفًا،
٤- قوم اختارهم الله لصحبة نبيه،
٥- وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
وقد قضى الله كونًا أن يقع في الأمة اختلاف ليميز الله الخبيث من الطيب، وهو واقع لا محالة لخبر الصادق المصدوق عليه صلى الله عليه وسلم: "... تفترق أمتي على ثلاث و سبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة ..." [صحيح الجامع: 5342], وقد دلنا النبي صلى الله عليه وسلم على الميزان الشرعي الذي توزن به الأقوال والأعمال لضمان موافقتها للطائفة الناجية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " ما أنا عليه وأصحابي " [صحيح الجامع: 5342].
فمن وزن أقواله وأعماله بهذا الميزان وضبطها به؛ لَحِقَ بالطائفة التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي ظاهرينَ علَى الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خذلَهُم، حتَّى يأتيَ أمرُ اللَّهِ وَهُم كذلِكَ" [رواه مسلم:١٩٢٠]
والخير كل الخير في اتباع من سلف والشر كل الشر في ابتداع من خلف، وكل فرقة من الفرق تدعي اتباع الكتاب والسنة!!
ولكن ما أن تعرض أقوالهم وأفعالهم على الميزان الشرعي إلا ويظهر كذب تلك الدعاوى وتدليسها!!.
ولا يفهم من الحديث السابق تكفير تلك الفرق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عدهم من أمته بقوله: "تفترق أمتي..." فليتنبه لذلك!!
فالسلفية تعني اتباع الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، وهي الإسلام الصافي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، بعيدًا عن البدع، والتحزبات، والعصبيات، والسريات التي هي شعار تلك الفرق الضالة.
ومما يؤسف له أن تسري بعض تلك الآفات - كالتعصب للأشخاص- في صفوف بعض إخواننا في الوقت الذي ينادون هم فيه بنبذ العصبية وطلب الدليل، وهذا للأسف واقع من بعض من فهم السلفية فهما مغلوطًا وصار يحاكم الناس إلى ذلك الفهم القاصر فتراه فضًا غليظ القلب، ضيق الأفق، يُدخل من يشاء في السلفية ويخرج منها من يشاء بلا زمام ولا خطام, بعجلة وتعصب لأقوال بعض أهل العلم دون بعض!!
بل يعقد على ذلك الولاء والبراء، ثم ينزِّل أحكام السلف في معاملة أهل البدع الصِرف على إخوانه من طلاب العلم السلفيين لأدنى مخالفة لرأيه وتقليده ولربما حسدًا منه لم يعد بمقدوره ستره وتصريفه!!
وهذا الصنف من الشباب -ذكورًا وإناثًا- تعج مجالسهم ومجموعاتهم (وات ساب، بلاكبيري، تلجرام...الخ) بالغيبة والنميمة باسم الغيرة والنصيحة، وتضيع عندهم الأمانة فما أن يظفر منك بكلمة في مجلس خاص إلا ويطير بها في الآفاق ويُحمِّلها ما لا يحتمله السياق، بل ولا السباق ولا اللحاق، ويلبس ذلك الشطط لباس الشرع، ويظن أنه بذلك محسن، وما هو بمحسن!!
وتجد هذا الصنف من الشباب يُظهر الشجاعة في التحذير والثلب في أعراض طلبة العلم وأنه لا تأخذه في دين الله لومة لائم!!
ولكن هذه الشجاعة المزعومة لا تظهر إلا فيما بينهم أو أمام العامة أو عن طريق المنتديات أو وسائل التواصل الحديثة،
أما المواجهة فلا يقوون عليها بل لا يجرؤن، وتخرس ألسنتهم عندها كأنهم بكم لا ينطقون..!!
وكم أضر هذا الصنف بالدعوة، وكان سببًا في صد الناس عنها، وتشويه صورتها المشرقة، خصوصًا في بعض بلاد الكفر أو البلاد التي يقل فيها العلم ويفشو فيها الجهل والبدع والشرك، فما أن يجتهد بعض طلبة العلم في القيام بواجب تعليم الناس التوحيد والسنة إلا وتراهم يثيرون حولهم القلاقل (ليس عنده تزكيه من فلان، أو لا يعرفه فلان أو...) ثم يسعون في تأليب بعض أهل العلم عليهم بطرق ملتوية حتى يظفروا منهم بكلمة يسقطون بها من لا يوافق هواهم!!،
فَتُعَطَّلُ السنة ويُصد الناس عن أهلها، وتقر البدعة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: ٤٢]..
فاحذر يا طالب العلم أن تكون من هذا الصنف من الناس، أو أن تُضرب الدعوة من قبلك، ولتعلم أن الدعوة السلفية رحمة للناس أجمعين، كيف لا، وهي امتداد لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧]
وأعلم أن الخطأ الواقع ممن عُرِفَ بسلامة المنهج -ممن أصوله في التلقي والاستدلال أصول سلفية صحيحة- يعالج بالحكمة والترفق معه بالنصيحة لا بالإلغاء أو الإقصاء أو إهدار جهوده المشهودة -لا سيما في التصدي لأهل البدع- كما هو مشاهد اليوم من بعض من تصدر للجرح وأضفيت عليه الألقاب العريضة فحصل بسببه تفريق وتمزيق للصف السلفي والشكوى إلى الله!!
ولا أبالغ إن قلت: إن الدعوة السلفية لم تمر بمحنة أشد من محنة التفرق التي تسربت إلى بعض صفوفها خلال السنوات الأخيرة!!
وهذه ضريبة مزاحمة العلماء فيما اختصهم الله به، الذين حباهم المولى بالعلم والحكمة والنظر التام في المصالح والمفاسد التي لا يدركها غيرهم..!!
ولو أن هذا الصنف -من المتحمسين على جهل- تجنبوا الخوض فيما لا يعنيهم واشتغلوا بترقع عيوبهم وتقصيرهم في تعلم ما يجب عليهم من العلم وتزكية نفوسهم بالعمل لكان خيرًا لهم ولهذه الدعوة المباركة..
فهذه دعوة لنبذ التحزب والتعصب للأشخاص وعقد الولاء والبراء على أقوالهم الاجتهادية أو إلزام طلبة العلم بها على مبدأ: إما معي أو ضدي!!
وقد حذر العلماء قديمًا وحديثًا من هذه الآفات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "إذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص؛ أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك: نظر فيه فإن كان قد فعل ذنبًا شرعيًا عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة، وإن لم يكن أذنب ذنبًا شرعيًا لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره. وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} .
وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهدًا بموافقته على كل ما يريده؛ وموالاة من يواليه؛ ومعاداة من يعاديه بل من فعل هذا كان من جنس جنكيزخان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقًا مواليًا ومن خالفهم عدوا باغيًا؛ بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله؛ ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله؛ ويحرموا ما حرم الله ورسوله؛ ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله. فإن كان أستاذ أحد مظلوما نصره وإن كان ظالمًا لم يعاونه على الظلم بل يمنعه منه" [مجموع الفتاوى (٢٨ / ١٥، ١٦)]
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله : "...أنصح الشباب من هذا التفرُّق وأقول: إياكم والتعصب لأحد, بل تعصبوا للحق أينما كان ولا تكرهوا هذا لأنه ليس على رأي هذا, بل الواجب محبة أهل الخير..." [لقاء الباب المفتوح (67)]
وأعلم أن الله أمرنا بالحكم على الظواهر واختص هو سبحانه بالضمائر، فمن انتسب إلى منهج السلف قُبِلَ منه إلا أن يظهر منه خلافه؛ فالحكم حينئذٍ على ما أظهر وأبدى لا على ما في قلبه ستر وأخفى، يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "فالواجب إجراء الناس على ظواهرهم؛ لأننا لا نعلم الغيب، ولا نعلم ما في القلوب، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إنما أقضي بنحو ما أسمع"[شرح رياض الصالحين: (4/278)]
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى ذلك المعنى فقال: "لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقًا، فإن كان موافقًا له باطنًا وظاهرًا: فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنًا وظاهرًا، وإن كان موافقا له في الظاهر فقط دون الباطن: فهو بمنزلة المنافق، فتقبل منه علانيته وتوكل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم" [مجموع الفتاوى (٤ / ١٤٩)].
قال الشيخ فتحي الموصلي: "...الثانية: هي قاعدة الاحتياط في الدين وعلاقتها بأحكام الانتساب؛ فإذا عُرِفَ بالنسبة فالاحتياط يقتضي منا إثباتها وإبقاؤها على أصلها حتى يرد النافي؛ فالاحتياط في إثبات النسب لا في نفيه؛ كما يقول ابن قدامة رحمه الله:"فإن النسب يحتاط لإثباته ويثبت بأدنى دليل ويلزم من ذلك التشديد في نفيه وأنه لا ينتفي إلا بأقوى الأدلة" [المغني (٦ / ٤٢٠)]...فنسبة الرجل إلى السنة -مثلا- وتسميته بالسني يحصل بأدنى دليل يصلح للإثبات؛ لكن إخراجه من دائرة أهل السنة ونسبته إلى البدعة لا يكونان إلا بأقوى الأدلة وأصرحها دلالةً؛ ولهذا كانت طريقة أهل العلم والفقه التسهيل في الإلحاق والإدخال والتشديد في الطرد والإخراج" [الدعوة السلفية فضيلة الاكتساب وحقيقة الانتساب: ص 197, 198].
وختامًا أسأل الله العظيم أن يجعل هذا المقال لبنة خير في طريق الإصلاح وإزالة العقبات التي تعترض طريق  هذه الدعوة المباركة وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين..
كتبه / حمد بن دلموج السويدي
ليلة: 29 / ذي القعدة/ 1435هـ
الموافق:  23/09/2014م